عرفت العلاقات الأمريكية الأرجنتينية تطورا ايجابيا وكبيرا خلال التسعينات من القرن الماضي بفضل سياسة التودد والتقارب التي انتهجها الرئيس كارلوس منعم (1989-1999) بما فيه مشاركة رمزية لبارجتين أرجنتينيتين في حرب الخليج الأولى لدرجة أن الأرجنتين أصبحت البلد الجنوبي الوحيد في العالم الذي قبلت عضويته كمراقب في الحلف الأطلسي بطلب من الرئيس جورج بوش (الأب).
لكن الأوضاع انقلبت على أعقابها مع بزوغ القرن الجديد وذلك بسبب التحالف الاستراتيجي بين الأرجنتين وفنزويلا وبالخصوص خلال وبعد مؤتمر الأمريكتين الرابع الذي انعقد في بداية شهر نونبر 2005 في مدينة مار ديل بلاتا بالأرجتين وتلك المعاملة الخشنة وغير الدبلوماسية التي قوبل بها الوفد الأمريكي واعتبرتها الأوساط الرسمية في واشنطن مشينة في حق الرئيس جورج بوش (الابن) الذي غادر المؤتمر قبل اختتام أشغاله.
ومن ثمة أفل نجم الأرجنتين في أعين واشنطن فهمشت وحل محلها البرازيل الذي أصبح منذئذ المحاور الوحيد للولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية بالرغم مما كان يقال عن حكومة الرئيس البرازيلي لويس لولا دا سيلفا بأنها “يسارية” وأن سياستها الخارجية تتناقض مع السياسية الأمريكية.
وإذا كان للتحالف بين فنزويلا والأرجنتين وقعه الكبير على علاقات هذه الأخيرة مع الولايات المتحدة فإن التقارب السياسي والتعاون التجاري والاقتصادي بين البرازيل وإيران لم يؤثر سلبيا على التعاون بين برازيليا وواشنطن بل تقوا هذا التعاون على حساب الأرجنتين التي لم تحظ إلى اليوم ولو بزيارة واحدة من مسؤول أمريكي سامي في حين استقبلت الرئيسة البرازيلية ديلما روسيف نظيرها الأمريكي باراك أوباما بعد مرور ثلاثة أشهر فقط على تنصيبها.
واعتبرت زيارة أوباما لبرازيليا في مارس 2011 والتي أتت غداة التصويت البرازيلي الإيجابي في الأمم المتحدة على تعيين مقرر خاص بحقوق الإنسان في إيران نقطة تحول هامة في مسار التعاون البرازيلي-الأمريكي وفي التراجع السريع الذي عرفته العلاقات السياسية والتجارية بين برازيليا وطهران خصوصا بعد اقدام الرئيسة روسيف على انتقاد السياسة الإيرانية في مجال حقوق الإنسان.
ولإدراك أهمية هذا التحول الكبير في العلاقات بين البرازيل والولايات المتحدة تكفي الإشارة إلى أن الإعلان عن الترخيص ببدء العمليات العسكرية الأمريكية ضد نظام معمر القذافي في ليبيا تم والرئيس أوباما لا يزال في زيارة خاصة للمدينة البرازيلية ريو دي جانيرو مما لهذا القرار من دلالات سياسية إذ أن برازيليا إن لم تكن وافقت على تلك العمليات فإنها لم تستنكرها.
بيد أن العلاقات السياسية البرازيلية-الأمريكية شهدت بدورها توترا شديدا خلال السنة الماضية بسبب فضيحة التجسس الأمريكي على الرئاسة والمؤسسات الاقتصادية البرازيلية مما أدى ألى إلغاء الزيارة التي كان من المقرر أن تقوم بها ديلما روسيف لواشنطون ولم تعد المياه إلى مجاريها إلا في شهر أبريل المضي بمناسبة وعلى هامش مؤتمر الأمريكيتين السادس الذي احتضنته باناما فحلت الرئيسة البرازيلية ضيفة على البيت الأبيض في 30 من شهر يونيو.
أما بالنسبة لطهران فإن رد فعلها على المستجدات في علاقتها مع برازيليا لم يتأخر كثيرا إذا بادرت بالتفاوض السري مع الأرجنتين في موضوع “أميا” تمخض عنه تحالف جديد بين الطرفين لم يكن في الحسبان نددت به الأوساط اليهودية ولكن رأت فيه الجهات الموالية للحكومة أمرا طبيعيا باعتبارها أن اتهام إيران في قضية “أميا” تم تحت الضغوط الأمريكية والإسرائيلية .وأن لا مبرر له
والحقيقة أن بداية نقطة التحول في العلاقات الإيرانية مع البرازيل من جهة والأرجنتين من جهة أخرى حدثت في منتصف شهر يونيو 2010 بمناسبة تعيين الصحفي هيكتور تيميرمان أول وزير يهودي للخارجية الأرجنتينية ثم الإعلامي من أصل سوري، روبيرتو عواد، سفيرا في دمشق.
فبالنسبة لهيكتور تيميرمان كان الجميع يعتقد أن تجربته الدبلوماسية في الولايات المتحدة منذ2004 كقنصل في نيويورك أولا ثم كسفير في واشنطون وكذلك علاقته الوطيدة مع ممثلي المؤتمر اليهودي العالمي ستسهل عليه مهامه الجديدة في مد جسور التواصل بين واشنطون والأرجنتين وممارسة المزيد من الضغوط السياسية على إيران في قضية “أميا”.
ومن أبرز المؤشرات في هذا الاتجاه تكليف تيميرمان في أغسطس 2008 بمهمة الترتيب للقاء هام بين الرئيس الفنزويلي أوغو شافيس ورئيس المؤتمر اليهودي العالمي رونالد س. لاودير بحضور رئيس المؤتمر اليهودي الأمريكي اللاتيني جاك تيربنس اعتبر في أوانه سابقة من نوعها وكان القصد منه دعوة شافيس إلي التبصر في تعامله مع ايران وابعاد شبح قطع العلاقات بين كاركاس وإسرائيل بعد حرب لبنان 2006.
ثم أتى أول امتحان دبلوماسي لتيميرمان أسبوعين بعد تنصيبه وذلك بمناسبة زيارة الرئيس السوري بشار الأسد، الذي حل بالأرجنتين في 2 يوليوز 2010، وتعيين روبيرتو عواد الرئيس الأسبق لفدرالية الهيئات العربية في بونوس ايريس (فياراب) سفيرا في دمشق رغم استنكار الجالية اليهودية لهذا التعيين متهمة عواد بالعداء تجاه اسرائيل.
وعكس كل هذه التنبؤات حدث تقارب مباغت بين الأرجنتين وإيران إذ تفيد المعلومات بهذا الشأن أن الحكومة السورية لعبت دور الوسيط بين الطرفين خلال زيارة وزير الخارجية الأرجنتيني لدمشق في 23 من يناير 2011 ولقائه السري مع مسؤولين إيرانيين سامين توج بالتوقيع على مذكرة تفاهم بين البلدين على هامش قمة الاتحاد الإفريقي المنعقد بالعاصمة الإثيوبية في 26 من نفس الشهر.
وترمي “اتفاقية أديس أبيبا” أساسا إلى إنشاء لجنة ثنائية لتقصي الحقائق في قضية تفجير مقر “أميا” (الأولى من نوعها في العالم) تتشكل من خمسة حكام دوليين (رئيس متفق عليه بالتراضي وقاضيين عن كل طرف) مما ساهم في إبطال مفعول المخطط الرسمي الذي اعتمدته الأرجنتين حتى ذلك الحين للتضييق على إيران في المحافل الدولية.
ولا داعي للتذكير هنا بمرور أزيد من سنتين على هذه الاتفاقية دون أن تحقق أي تقدم بالنسبة للغاية التي أبرمت من أجلها كما أنه لا داعي للخوض في مسببات انتحار أو اغتيال اليهودي ألبيرتو نيسمان رئيس هيئة التحقيق والادعاء العام في قضية أميا لمدة عشر سنوات والذي عثر على جثته داخل بيته بفارق ساعات فقط من المثول أمام لجنة برلمانية لفضح الاسباب الرئيسية التي تقف وراء اتفاقية أديس أبابا ودور الوساطة الذي لعبته في هذا المجال شخصيات سياسية وجمعوية مقربة من الحكومة الأرجنتينية.
فاتفاقية أديس أبابا في رأي الصحفي الأرجنتيني أندريس أوبنهايمر تضيف الأرجنتين بشكل كامل إلى مجموعة بلدان أمريكا اللاتينية الصديقة لإيران بزعامة فنزويلا التي تعتبر المرآة التي تنعكس فيها صورة إيران والأرجنتين. وتلك الصورة تختزل ليس فقط التقارب بين بوينوس أيرس وطهران وإنما أيضا نجاح هذه الأخيرة بالرغم من التقلبات التي تشهدها أمريكا اللاتينية، في استقطاب مزيد من بلدان المنطقة إلى صفها وتكريس تغلغلها في القارة بفضل مثابرتها على نهج سياسة الترغيب والمراوغة والوعود والتظاهر بالاعتدال لتجاوز العقبات التي تعترض مطامعها.
وفي ظل احتدام المصالح وتقلب استراتيجيات الغير أو في غياب تام للطرف الآخر تعمل الدعاية الإيرانية بلا هوادة ولا توقف على ترسيخ آليات تحركها في أمريكا اللاتينية في انتظار قفزة لم يحن وقتها بعد وذك لانشغال طهران في الظروف الراهنة بسياستها التوافقية مع اسرائيل في رسم الخريطة الجديدة للشرق الأوسط.